ولد فكري مكرم عبيد في 16 فبراير 1916 بمحافظة قنا,ورحل في 16 فبراير 2006 م وعاش تسعين في حياة كلها عطاء لوطنه الذي عشقه من كل قلبه..وانخرط في الحياة السياسية منذ صباه وحتي الساعات الأخيرة من حياته..
ولد فكري قبل ثورة 1919 بثلاث أعوام فنما في أحضانها وتربي علي مبادئها وارتوي من تعاليمها..وكان الابن الأصغر لوالديه بعد ستة أشقاء-مكرم وحلمي ورياض وجورج وليندا ومرجريت-وكان شقيقه الأكبر الزعيم مكرم عبيد بمثابة الأب والمعلم فقد سبقه في الميلاد بستة وعشرين عاما,
تخرج فكري في كلية الحقوق عام 1937 وعمره 21 عاما,كان شقيقه مكرم باشا في عامه السابع والأربعين,وفي أوج مجده السياسي فعمل معه في مكتبه بالمحاماة وشاركه في الحياة السياسية..بل ومن قبل أن يتخرج فكري في كلية الحقوق وهو ملتصق بشقيقه بعد أن أنهي تعليمه الأولي بأرض ميلاده قنا وجاء ليواصل تعليمه بالقاهرة العاصمة..وعاش فكري بالقرب من شقيقه مكرم زعيم مصر الذي تبوأ مكانا بارزا في صدارة الحركة الوطنية المصرية ضد الاستعمار,وكان سياسيا منظما وسكرتيرا عاما لحزب الوفد ووزيرا للمالية وعضوا بمجلس النواب ونقيبا للمحامين..ومن كل هذا استقي شقيقه الأصغر فكري وخرج من هذا المناخ الوطني ليواصل المسيرة في العمل السياسي وسط أجواء اختلفت بعد قيام ثورة 1952 وتحرير البلاد من الاستعمار..
ولكن ظل فكري علي ذات المباديء والأفكار الليبرالية والعلمانية رغم اختلاف السياسات والتوجهات, فكان شخصية متميزة-كشقيقه-يتعامل بوصفهالمصري دون غيره,ولم تكن قبطيته عنصرا مؤثرا أبدا في سلسلة الأفعال السياسية وردودها..وإن كان هذا لاينسينا أن قبطية فكري ومن قبل شقيقه مكرم هي التي صاغت لهما هذا الدور,وهو التحليل الذي انتهي إليه الدكتور مصطفي الفقي في مقدمة دراسته العميقة عن الأقباط في السياسة المصرية.
عندما أشار إلي أن مكرم عبيد في تكوين شخصيته ومسار حياته السياسية يعتبر تجسيدا حقيقيا لفكر ومشاعر وطموحات فرد ينتمي إلي أقلية دينية قبطية هي جزء لايتجزأ من وطن ينتمي إليه بالدرجة الأولي..هذا الفكر وتلك المشاعر والطموحات تفسر اندفاعه وتطلعه للقيام بدور سياسي مؤثر علي المستوي الوطني .. حياته السياسية تعد انعكاسا حقيقيا لواحد من إفرازات الفترة التي تمتعت فيها مصر بنصيب كبير من الأفكار الليبرالية والعلمانية , والتي أعطت للحركة الوطنية شخصية متميزة باحتوائها للمسلمين والأقباط معا,وتقديمها حلا عمليا وتجربة تاريخية فيما يتصل بقضية الأقليات عموما.
ذكريات في مكتبه بشارع قصر النيل
في مكتبه بشارع قصر النيل قضيت ساعات طويلة عشت فيها عبق التاريخ..مجموعات الصور التي تغطي الحوائط تروي تاريخ مصر الحديثة عبر قرنين من الزمان..مجموعات الكتب والموسوعات التي تملأ رفوف المكتبات في كل مناحي المعرفة وبكل اللغات تفصح عن عمق ثقافة راحلنا..شرفة مكتبة المطلة علي وسط القاهرة تكشف من الدور السادس تعانق مآذن المساجد مع قباب الكنائس في وحدة وطنية كان يعشقها..كل شيء له معني حتي الأثاث الأنيق يحكي في صمت عن الزمن الجميل.
وسامح هو أصغر أبنائه..تخرج في الجامعة الأمريكية بعد أن درس الاقتصاد,وعمل في مكتب والده مستشارا,مستفيدا من خبرته في المحاماة فجمع بين المال والقانون..ومن هنا كان سامح قريبا منه فابنته الكبري سميحة متزوجة,وابنه عاطف رجل أعمال يعمل بالتجارة ما بين مصر وكندا, وابنه سعيد دكتور مهندس يمتلك مصانع في مسطرد..وكان راحلنا يمارس مع أولاده حياة الشوري فلم يكن يتخذ قرارا عائليا إلا بعد أن يجمع كل أولاده ويستشيرهم..كان ليبراليا في تفكيره,وفي عمله السياسي وفي حياته الأسرية أيضا..ولكن شاء القدر ولظروف العمل والحياة أن يكون ابنه سامح هو الأقرب منه..
ذكريات في حياته
محطتنا الأولي كانت مع أصدقائه..صديقه الأول الرئيس الراحل أنور السادات.. وصداقتهما ترجع إلي طفولتهما عندما جمعتهما فرقة كشافة, وعاشا معا عن قرب في معسكرات عمل..وعندما فكرالسادات بعد تجربة المنابر وحزب مصر في تكوين حزب جديد-الحزب الوطني-طلب من فكري مكرم عبيد هذه المهمة,وكانت كل الاجتماعات تتم في مكتبه,ومنه خرجت كل تشكيلات الحزب,وكان فكري هو الأمين العام والرجل الثاني في الحزب بعد الرئيس أنور السادات..وكان فكري يتمتع بمكانة خاصة عند السادات وموضع ثقة كبيرة,ففضلا عن منصبه الرفيع في الحزب عينه نائبا لرئيس الوزراء لشئون مجلسي الشعب والشوري..وظل فكري قريبا من السادات حتي ساعته الأخيرة..فعندما اغتيل السادات في حادث المنصة كان فكري إلي يساره بعد أبو غزالة مباشرة, وكان إلي يمين السادات مبارك وفؤاد محيي الدين..وهي من الأحداث التي تركت صدمة شديدة في حياة فكري مكرم عبيد وكان لايحب استعادتها أو مجرد الحديث عنها,وواصل مسيرة العمل السياسي مع الرئيس السابق حسني مبارك وزيرا في أول وزارة شكلها وعضوا في مجلس الشوري حتي ساعة رحيله.
ذكريات بين الأصدقاء
** و أصدقاء فكرى هم أربعة:حسن إبراهيم,وصدقي محمود,وداود عويس,وعبد المنعم رياض-ويكشف الابن عن شفافية الأب وعمق محبته لأصدقائه..كان معهم ينسي مواعيده وارتباطاته ويواصل معهم الحديث الممزوج بالمرح أحيانا وبالحدة أحيانا أخري,فلكل منهم خبراته ومواقفه التي أثرت حياته,كما أثرت حياتهم رؤيته وفلسفته وحكمته..
حسن إبراهيم الذي كان نائبا لرئيس الجمهورية في عصر جمال عبد الناصر وعاش عن قرب كل جبروت وقوة عبد الناصر..
والفريق صدقي محمود الذي كان وزيرا للدفاع في عام 1967,وعندما سجن وتمت محاكمته فيما عرف بمحاكمة الطيران كان صديقه فكري هو محاميه الذي انبري للدفاع عنه,وكانت فرصة أن يقرأ كل ملفات النكسة..
وصديقه الثالث داود عويس من الضباط الأحرار وكان القائد الفعلي لسورية عندما كان الحاكم العسكري للإقليم الشمالي خلال الوحدة بين مصر وسورية في السنوات من 1958 إلي 1961 وكان عبد الناصر قد اتهمه بتدبير الانقلاب وسجن وخرج وعاش معه فكري كل أيامه بحلوها ومرها..
وصديقه الرابع الحميم هو الفريق عبد المنعم رياض قائد حرب الاستنزاف وشهيد مصر الغالي.
ذكريات الكفاح والوطني
تخرج فكري في كلية الحقوق واشتغل بالمحاماة مع شقيقه الزعيم مكرم وكان أقرب الأقرباء منه في نضاله السياسي..في هذا العام كان مكرم يعيش عصره الذهبي بعد خروج أحمد ماهر والنقراشي عن الوفد,وكان هو المهندس الحقيقي لقرارات الوفد وتحديد دوره في السياسة الوطنية ابتداء من معاهدة 1936,وعندما شكل النحاس وزارته عين مكرم وزيرا للمالية ووزيرا للتموين معا وهما وزارتان تمثلان أكثر المسئوليات أهمية في وقت الحرب.. وكان فكري قريب من شقيقه مكرم علي أنني أري أن أهم ما تعلمه فكري من هذه المعايشة هو درس المواطنة فدور حزب الوفد-في هذا الوقت-في تحقيق الوحدة الوطنية هو دور تاريخي مشرف وصفحة مضيئة من تاريخ مصر سجلها المستشار طارق البشري في كتابه المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية فهو يقول بصريح العبارة : لم يكن يمكن أن يبلغ النجاح في ائتلاف المسلمين والقبط إلي الحد الذي بلغه ولا أن يكتب له الاستمرار بغير الوفد وفاعليته في مزج قوي الأمة المصرية وإنشاء الجماعة الوطنية في مصر علي أساس وطيدوهذا الذي عايشه وتعلمه فكري من حزب الوفد صار مكنونا في قلبه مخزونا في فكره..ونجح السادات بذكائه ودهائه في الاستفادة منه,فعندما اشتد التيار الإسلامي في أسيوط وصارت مصر كلها علي حافة الهاوية أرسل السادات فكري مكرم عبيد الذي استطاع برصيده الوطني الضخم أن يحتوي الأزمة ويعيد الهدوء إلي أسيوط بمسلميها وأقباطها.
ذكريات الكفاح السياسى
** ومع بداية ثورة 1952,كان قد كتب مقالا بعنوان من الديموقراطية إلي الشمولية فالديموقراطية بدأه بالتأريخ لحالة الفوضي السياسية المنظمة في مصر فيما قبل 1952,مرورا بحركة الجيش في يوليو 1952 وكتب تحت عنوان الحرس الوطني فيقول:استحدثت الثورة تنظيما جديدا أطلقت عليه الحرس الوطني وكان مكونا من مجموعة منتقاة من مؤيدي الثورة في المحافظات,ولم يكن واضحا ما هو الغرض منه ولا ما هي اختصاصاته وما لبث أن مات موتا بطيئا دون أن يعرف سبب ولادته ولاسبب موته!!
وعندئذ بدأ التفكير في وجوب إيجاد تشكيل سياسي جماهيري بجوار قيادة الثورة,فتأسس تنظيم-لم يكن حزبا ولا جمعية-بل هوهيئةأطلق عليها هيئة التحريروتكونت لها أمانة عامة رئيسها المرحوم عبد اللطيف بغدادي وكان رجلا ذكيا طموحا يري في نفسه كفاءة تؤهله لرئاسة مجلس القيادة أكثر من جمال عبد الناصر,ومن هنا كان الخلاف بينهما,ووزعت أمانة هيئة التحرير كل الضباط المنضمين إليها علي بلاد القطر للدعاية للهيئة الجديدة متوخين أن يخصص كل منهم في بلدته أو محافظته برئاسة أحد أعضاء مجلس الثورة وبالاشتراك مع بعض الأعضاء المنتمين للهيئة,فكان نصيب القليوبية كمال الدين حسين,ونصيب الإسكندرية حسن إبراهيم وكان نصيب قنا حوالي اثني عشر ضابطا برئاسة أنور السادات,وكنت العضو المدني الوحيد في البعثة وهنا يكشف فكري عن بداية عمله السياسي مع رجال ثورة يوليو..وأعتقد أن اختياره للسفر إلي محافظة قنا كان اختيارا موفقا لرصيده وأسرته من شعبية كبيرة بين أولاد بلدتهم-قنا-
أما اختيار السادات ليرأس الوفد المسافر إلي قنا فقد كان أكثر توفيقا وذكاء فقد حرص السادات -عضو مجلس الثورة الذي أذاع بصوته بيان قيام الثورة-أن يكون صديقهفكريقريبا منه ليستفيد من خبرته في العمل السياسي.
ذكريات الجوانب الإنسانية
** تزوج فكري من ابنة عائلة برجوازية في أسيوط..جاءت معه إلي القاهرة لتشاركه حياته وتلعب دورا خفيا في نجاحه وشعبيته,فقد اتسمت بذكاء خارق وخفة دم فاكتسبت الزوجة -وداد إسكندر مينا-تقدير كل أصدقائه ومريديه,وجعلت من البيت وجهة لكل معارفه وقاصديه تستقبلهم بترحاب..الغريب قبل القريب..والفقير مثل الغني..فتحول البيت بمنشية البكري إلي ملتقي سياسي,كما كان البيت في العجمي بالإسكندرية..وظل البيت مفتوحا عامرا حتي رحلت منذ عامين فحزن الزوج علي زوجته المخلصة التي ملأت حياته وحياة كل من حولهما بهجة وسعادة..
** ويقول لابن سامح في بيتنا تعلمت وإخوتي قبول الآخر..كان أصدقاء وصديقات والدتي من كل ألوان الطيف,مصريين وفلسطينيين وأردنيين وشواما وأجريج وأرمن وطلاينة..لم نكن نسأل أو نعرف هذا مسلم أو ذاك مسيحي فلم يكن والدي يعرف للدين تفرقة..كان يقرأ في الإنجيل وفي القرآن أيضا,وكان يحفظ آيات من القرآن تماما كما يحفظ آيات من الإنجيل..وكانت ثقافته كلها ممزوجة في كوكتيل بين كل المعارف..حتي لغته كانت متنوعة يتكلم مع الفرنسيين بالفرنسية كأنه فرنسي ويتكلم مع أهل بلدته قنا ويكأنه لم يغادر قنا..ومنحه الله نعمتين..أعطاه نعمة القبول وكانت نعمة كبيرة أهم عنده من كل الأموال..والثانية كانت التذكر كان يتذكر,كل من يقابله ولو بعد سنوات,يناديه باسمه ويذكر له أسماء أولاده وعائلته ويسأل عن كل منهم بالاسم ويحكي معه بعض المواقف والأحداث له أو لأسرته..كانت له علاقة شخصية مع كل واحد يقابله,وهذا ما جعل منه برلمانيا ناجحا في مجلسي الشعب والشوري,كان يعرف كل عضو في المجلسين ودائرته وشياخته..وكان خدوما للجميع لايتردد للحظة في مساعدة سائل..وعاش حياة منظمة يعطي الرياضة ساعات كل يوم في نادي هليوبوليس,وكان رئيسا شرفيا للنادي حتي آخر يوم في حياته,ولاعب بريدج ممتازا,
ولهذا عاش لايشكو من مرض إلا منذ عامين بعد أن رحلت رفيقة حياته..بدأ قلبه يضعف,وأصابه فشل في البروستاتا وعاش السنتين الأخيرتين ما بين المنزل والمستشفي كل شهرين أو ثلاثة يقضي أسبوعا أو أكثر في العناية المركزة لضبط الأملاح والفيتامينات في جسده الذي أصابه الوهن ولكن بقيت ذاكرته يقظة حتي اللحظة الأخيرة حينما وافته المنية في يوم عيد ميلاده..بعد تسعين عاما من حياة عاشها في إيمان كامل يصلي ويصوم,لايعرفه إلا المقربون منه..فقد عاش يؤمن بالعلمانية ويفصل بين الدين والسياسة,
فظن الكثيرون أنه بعيد عن الكنيسة,ولكن في الحقيقة كانت علاقته بالرب قوية قريبة,وبرجال الكنيسة طيبة حميمة,وفي مرضه الأخير زاره قداسة البابا شنودة الثالث في المستشفي وصلي له..
مقاله فى جريدة وطنى بعنوان" فكري مكرم عبيد..مع الأبرار " - فيكتور سلامة - جريدة وطنى بتاريخ الأحد 26/2/2006م العدد 2305