فهمي عمر, أو الخال كما يحلو لعشاقه وأصدقائه وتلاميذه أن ينادوه, ويطرب هو لهذه الصفة لأنها تربطه بجذور النشأة والثقافة والأهل, ولما لا.. وهو أول وأشهر صعيدي عرفه ميكروفون الإذاعة..وهو من الرواد أصحاب الأيادي البيضاء علي الإذاعة, منهل العلم والثقافة الأول وإنما تتحدث عن الأساتذة والرواد, وعن الدور البارز للإذاعة عبر تاريخها, حياته الأولي هناك في قرية الرئيسية مركز نجع حمادي محافظة قنا, حيث الصعيد الجواني وحيث الطفولة التي عاني خلالها كثيرا في سبيل تحصيل العلم بعد أن ألحقه أبوه بمدرسة دشنا الابتدائية التي تبعد20 كم جنوب قريته, وكانت وسيلة المواصلات بينهما الرفاص ـ مركب نيلية تدار بالبخار تقطع المسافة في نحو الساعة ونصف الساعة ـ واستمرت الحال أربع سنوات من الاغتراب عن الأهل والعزوة, لعبت هذه السنوت دورا بارزا في رسم شخصية الخال فهمي, وأول ملامح هذه الشخصية تحمل المسئولية مهما كان ثقلها.
وبعد المرحلة الابتدائية انتقل إلي المرحلة الثانوية في قنا بعد إصرار والده علي استكمال تعليمه علي عكس ما كان سائدا في تلك الأيام من امتهان الأبناء بمهنة آبائهم, ومساعدتهم في أعمال الزراعة واعتبر الخال فهمي عمر المرحلة الثانوية بمثابة النقلة الحضارية, فقنا غير دشنا فهي مدينة عامرة بها الكهرباء ووابور المياه الذي يمد المنازل, ومدرسة فاخرة زاخرة بالملاعب والمعامل ومسرح كبير به بيانو لمن يريد أن يتعلم العزف الموسيقي, وفي قنا أيضا سينما تعرض فيها أفلام عبدالوهاب وأم كلثوم وحسين صدقي وأنور وجدي ويوسف وهبي, فسر الخال بقنا وبإمكاناتها وخصوصا السينما التي اعتاد الذهاب إليها كل ليلة حتي إنه كان يشاهد العرض الواحد خمس مرات أسبوعيا.
وفي قنا أيضا تعلق الخال فهمي بكرة القدم التي عرفها وتابع فريق مدرسته وهو يلاعب فرقا إنجليزية في صحراء قنا الشرقية الممتدة حتي الغردقة, وانضم إلي فريق التمثيل في مسرحية مجنون ليلي لأمير الشعراء أحمد شوقي تحت إشراف عثمان أباظة مفتش التمثيل في وزارة المعارف آنذاك.. وجاءت المرحلة الجامعية بعد النجاح والتفوق في الثانوية, واقترح الأهل كلية الحقوق كلية الوزراء ورجال القضاء أملا في أن يكون ابنهم وكيلا للنائب, العام, ثم قاضيا وانتقل عام1945 من قنا إلي الإسكندرية بعد أن تنازل عن حلمه الأول بالالتحاق بالمعهد العالي للكيمياء الصناعية ليعود بعدها ينقب عن كنوز الأرض في صحراء قنا الشرقية والبحر الأحمر, لكنه نزل علي رغبة أسرته واتجه إلي الحقوق ومدينة الإسكندرية التي يقول عنها إذا كانت دار السينما في مدينة قنا قد خلبت عقلي, فإن مدينة الإسكندرية جعلتني في حالة انعدام الوزن, فقد جئتها من مجتمع مغلق لا تخرج فيه المرأة إلي الشارع إلا ملتحفة ببردتها السوداء, ولا يظهر من ملامحها شيء حتي عيونها تغطيها البردة, إلي مجتمع مفتوح حيث المرأة تعوم في بحر المدينة بالبكيني.
وفي الإسكندرية عشق كرة القدم ووقع في حب الاتحاد السكندري الذي كان يجاور كلية الحقوق بالشاطبي.. كنت ألمح جماهير حول مداخل مدرجات النادي, وعرفت أن هناك مباراة كرة قدم سيلعبها الاتحاد والأوليمبي وهما في الإسكندرية مثل الأهلي والزمالك, وكان إن اشتريت تذكرة لدخول الدرجة الثالثة بمبلغ خمسة قروش, ومنذ ذلك اليوم أصبح الاتحاد السكندري يشكل حيزا في تفكيري وأصبحت مشاهدة مبارياته إدمانا بالنسبة لي وتضاعف هذا الإدمان بعد أن دخلت مباريات الدوري العام إلي ميدان الكرة المصرية عام48 وأصبحت أشاهد مباريات الاتحاد ضد الأهلي والزمالك والترسانة المصري والإسماعيلي وغيرها من أندية مصر, ومن أسرار مشواره مع الكرة: يذكر الخال فهمي رحلته الأولي مرافقا لفريق كروي عندما اشترك في رحلة نظمها نادي الاتحاد لجمهوره إلي القاهرة بقيمة خمسون قرشا تشمل تذكرة السفر بالقطار والعودة ودخول المباراة التي جمعت الاتحاد وفاروق ـ الزمالك حاليا ـ علي كأس الملك فاروق عام1948, ويومها فاز الاتحاد2/1 وكان الزمالك يضم يحيي إمام وعبدالكريم صقر والجندي وحنفي بسطان وغيرهم, أما الاتحاد فقدم للكرة المصرية لاعبا رائعا بزع نجمه يومها هو دياب العطار الشهير بالديبة الذي أحرز هدف الفوز وكان عمره19 عاما فقط وعدنا إلي الإسكندرية واحتفلنا بالفوز وسهرنا حتي الصباح.
وجاء التخرج صيف عام49, وبدأت محاولات العائلة لإلحاق الخال فهمي بسلك النيابة العامة, وانتظرت العائلة الانتخابات النيابية أملا في فوز حزب الوفد بأغلبيتها كالعادة وقتها, وكان ابنا عم والد الخال فهمي عضوين في مجلس الشيوخ ومجلس الأمة عن الوفد, وجاء يناير1950 وأجريت الانتخابات وفاز الوفد بالاكتساح, وسافر الخال فهمي إلي القاهرة.. سافرت إلي القاهرة لأكون قريبا من دائرة صنع قرار تعييني في النيابة العامة.. ومرت شهور يناير وفبراير ومارس من تلك السنة دون أن تظهر بادرة إيجابية واحدة تبشر بقرب التحاقي بالنيابة العامة إلي أن تطرق اليأس إلي قلبي..
في تلك الأثناء كان الخال فهمي يتدرب في مكتب الدكتور محمد صالح المحامي وأستاذ القانون التجاري وعميد الحقوق الأسبق, بوساطة من أبو الفتوح طلبة صقر, صديق أحد أقارب الخال وصهر الدكتور صالح.
ولعب القدر لعبته في تغيير مجري حياة الخال فهمي من النيابة إلي الإذاعة.. وفي أحد الأيام وأنا جالس مع الدكتور صالح في مكتبه قال لي: ما رأيك لو عملت مذيعا بالإذاعة المصرية, فقد أعلنت الإذاعة في الصحف عن فتح باب التقدم للعمل بها, وهي تطلب مذيعين ومحرري أخبار ومقدمي برامج.. لماذا لا تتقدم ويمكن إذا ما قدر لك العمل بالإذاعة أن تستقيل. إذا ما جاءتك وظيفة وكيل نيابة وكانت كل الوظائف الأخرى تطوف بذهني في حال لم أدخل سلك النيابة, إلا حكاية الإذاعة هذه إنه شيء كان بعيدا كل البعد عن خواطري وتطلعاتي وقبل أن أرد عليه بالقبول أو النفي سحب ورقة بيضاء وألصق عليها ورقة تمغة وكتب بخط يده طلب تقدمي لاختبارات الإذاعة, وجعلني أوقع علي الطلب واستدعي سكرتير مكتبه وأعطاه الطلب قائلا له: اذهب وسلم هذا الطلب45 شارع أحمد عبدالعزيز المتفرع من شارع شريف باشا أمام عمارة اللواء, حيث إدارة شئون العاملين بالإذاعة المصرية, وبعد أيام قليلة جاءني خطاب بالبريد يطلبني للاختبار الذي اجتزته وعينت بالإذاعة لكن مع إيقاف التنفيذ.
ولم يكن الخال فهمي عمر الذي تقدم مصادفة للعمل مذيعا ولاقي القبول يدري أن العمل في الإذاعة يتطلب وهو المفوه حديثا, المتمكن من قواعد اللغة العربية, ومخارج ألفاظه سليمة وحنجرته قوية وكلها مواصفات المذيع الناجح, أن يتنكر للكنته الصعيدية ولأنه لم يكن متقبلا وهو الصعيدي الأصيل فكرة التنكر للهجته متسائلا: مالها اللهجة الصعيدية؟ إيه عيبها؟.. تقرر أن يلتحق بالعمل قائما بالتسجيلات خارج الهواء, ولعب القدر دورا بارزا في الاستفادة من هذه المهمة التي استمرت15 شهرا, تعرف خلالها المذيع الجديد إلي نخب المجتمع المصري الثقافية والفنية والدينية.. لكن الناس لا تعرفه, لذا قرر أن يخوض أكثر من اختبار لهجة حتي كان المراد من رب العباد وجلس ثلاثة أسابيع مصاحبا لأحد الزملاء الأقدم دون أن ينبت ببنت شفة, إلي أن أخبره الأستاذ علي الراعي كبير المذيعين بأنه سيقرأ نشرة الأخبار لينطلق صوته لأول مرة في أغسطس..51 هذه نشرة الأخبار يقرؤها عليكم فهمي عمر وكانت سعادة الأهل في الصعيد بلا حدود عندما التفوا حول الراديو ليستمعوا إلي صوت ابنهم لأول مرة عبر المذياع لينسي الجميع حكاية النيابة.
ويتذكر الخال فهمي الأيام الجميلة التي شهدت بداية عمله في الإذاعة.. لم يكن مسموحا لمذيع أن يخطئ ومن يخطئ يرفع من جدول المذيعين أسبوعا أو اثنين ليتدرب علي أصول اللغة, لكن لم يكن مسموحا أن تدخل الاستوديو بالقميص والبنطلون فقط بل لابد من ارتداء الزي الكامل وتربط الكرافتة وتضع الطربوش علي رأسك, وكان أستاذنا حافظ عبدالوهاب يقول لنا: إن المستمع أذكي من المذيع, فلا تجعل المستمع يحس أنك لم تحلق ذقنك أو تهذب شعر رأسك ولا تجعله يحس أن حذاءك غير لامع.. وقلنا له كيف هذا يا أستاذ؟ فقال إذا لم تؤد عملك بنشاط وحيوية, وإذا لم تكن قد راجعت نشرة الأخبار مثني وثلاث, وضبطت وقفاتك وأحسنت تشكيل الكلمات, فأنت مذيع مبهدل في ملبسك ولست علي سنجة عشرة كما يقول.
ومن الإذاعة تعلم الخال فهمي الانضباط في المواعيد وهي صفة حميدة تلازمه حتي الآن في كل مواعيده, فهو منضبط كساعة بج بن. ويتذكر الخال فهمي جيل الأساتذة العظام الذين تتلمذ علي أيديهم وعاش بينهم وعمل معهم, مثل عبدالوهاب يوسف وبابا شارو وعلي الراعي وأنور المشري وعلي خليل والسيد بدير وصفية المهندس وعبدالحميد الحديدي وحسني الحديدي وحافظ عبدالوهاب, وهو لا ينسي أن أنور المشري اصطحبه معه إلي الإسكندرية ليكون المذيع المساعد في تقديم المعلقين الرياضيين وتسجيل صور إذاعية عن فاعليات دورة ألعاب البحر الأبيض المتوسط الأولي عام51, كيف كان يوجهه عبدالحميد يونس لتكون مخارج ألفاظه سليمة في حروف السين والثاء والكاف والقاف, وكيف كان عبدالحميد الحديدي شديد الجدية في العمل وعلي خليل شديد الأناقة في ملبسه ممشوق القوام. وسارت الأيام في مشوار حياة الخال فهمي المهنية في طريقها المرسوم, وعايش توحد إدارات الإذاعة في مبني الشريفين عندما قررت حكومة الوفد ذلك عام51, وشهد إشراقة ثورة يوليو المجيدة وكان المذيع الأول الذي قدم الرئيس الراحل أنور السادات ليلقي بيان الثورة الأول, ومنذ ذلك الحين تعرف إلي الرئيس السادات الذي كان يقرن اسمه أو يسبقه بلقب المذيع الصعيدي, وهذا اللقب التصق بالخال حتي صار جزءا منه بعدما كتب عنه جليل البنداري في آخر ساعة, وتعرفت إليه أم كلثوم مصادفة في الاستوديو وقدمه لها ابن اختها محمود دسوقي قائلا المذيع الصعيدي فردت بخفة دم يعني اللي يسلم عليه يقوله صعيده.
ويعتز الإذاعي الكبير فهمي عمر ببرامجه التي قدمها علي الهواء عبر أثير الإذاعة, ومنها ساعة لقلبك ومجلة الهواء اللذان تركا أثرا في عقول كل المستمعين يحنون إليهما حتي الآن, لكنه يذكر بالعرفان أيضا مدير الإذاعة محمد أمين حماد الذي وافق له علي فكرة تقديم برنامج رياضي هو الأول من نوعه وأسميته الرياضة في أسبوع ووافق علي فكرة التعليق علي مباريات الدوري العام والذي استمر حتي عام82, وحقق برنامج التعليق علي مباريات الدوري, الذي كان يذاع لمدة خمس دقائق فقط فرقعة في الوسط الرياضي, وأصبح له مراسلون منتشرون في محافظات مصر أصبحوا نجوما معروفة وأصبح في مكتبه, خط تليفون به خاصية الترنك, ومن خلال الرياضة صاحب الفرق الرياضية في الدورات الأوليمبية, وبلغ رصيده منها6 دورات وضعته في صدارة الإعلاميين العالميين المتابعين للدورات الأوليمبية, وكان شاهد عيان علي أحداث دورة ميونيخ الأوليمبية74 وبطولات كأس الأمم الإفريقية منذ انطلاقتها عام57 في السودان, والدورات العربية والمتوسطية والإفريقية حتي أصبح للرياضة إذاعة خاصة تبث برامجها اليوم كله. ومكن العمل الإذاعي الخال فهمي عمر من عقد صداقات قوية مع النجوم الكبار, أم كلثوم وعبدالحليم حافظ وشادية, وكانت علاقة الخال مع الإذاعي الفني الشهير حسن إمام عمر سبب تعرفه بأهل الفن.
وفي كتابه نصف قرن مع الميكروفون يتذكر الخال فهمي عمر قطار الرحمة المتجه إلي الصعيد لجمع التبرعات المادية لأهل فلسطين بعد48, وزيارته الأولي للأردن عام54 مع وزير الإرشاد القومي صلاح سالم, ولقاءه هناك مع الملك حسين وزيارته لطولكرم وجنين ونابلس وقليقيلية والقدس, التي أدي في مسجدها صلاة الجمعة, ويتعرض الخال فهمي لمذبحة الإذاعة والتليفزيون عام71 وبالتحديد في شهر مايو, وكان أحد ضحاياها الإذاعي الكبير جلال معوض الذي أحيل إلي التقاعد, وهو ما أصاب الخال فهمي عمر بحزن شديد لما لجلال معوض من مكانة كبيرة, فهو حسب تعبير الخال فهمي جلال معوض كان ألمعنا جميعا, وكان النجم العالي في سماء الميكروفون, وصاحب شعبية جارفة لدي المتلقين, ويقارن الإذاعي الكبير فهمي عمر بين التغطية الإذاعية التي كانت في حربي67 و73 فيري أن الزعيق كان لغة الأولي والصوت الهادئ كان في الثانية.
وتستعرض فصول مشوار فهمي عمر الإذاعي الذي يمتد لنحو خمسين عاما أسماء أساتذة كبار أفرد لهم فصولا كاملة مثل عبدالحميد الحديدي والمأمون أبو شوشة وأحمد كمال أبو المجد, وطاهر أبو زيد وصفية المهندس وعثمان أباظة, ويعرج في مشواره علي رفضه التحول من العمل الإذاعي إلي التليفزيوني بعد ظهور التليفزيون, كأقرانه الذين انتقلوا فبقي أسير عشق ميكروفون الإذاعة برغم طلب عبدالقادر حاتم وزير الإعلام.
ويعرج علي ارتباطه بنادي الزمالك إبان رئاسة حسن عامر له, واستمراره حتي أصبح وكيل شرف النادي ويصل إلي مرحلة توليه مسئولية الإذاعة عام82 كرئيس نهض بها وطورها باعتراف الجميع, وانتشرت في عهده الإذاعات المحلية في كل أرجاء الوطن.
ويرصد الخال فهمي عمر في مشواره المهني بعض المطبات الصعبة التي واجهته تحديدا خلال ترأسه للإذاعة, من رفضه التدخل في شئون عمله أو وجود مراكز قوي للبعض, واحترم المسئولون هذا الأمر فيه حتي أحيل إلي التقاعد الذي أفرد له الفصل العشرين من مشواره الذي ضمنه كتابه,